تؤكد الإخفاقات الباكرة للمعالجة الجينية مدى صعوبة إنشاء وسائط فعالة وآمنة لتوصيل الجينات إلى الأنسجة المستهدفة. وفي معظم الحالات لم تكن أكثر الطرق أمانا للتوصيل فعالة إلى حد بعيد، كما أن بعض طرق التوصيل الأكثر فاعلية ثبت أنها غير آمنة، إذ إنها تُحدِث ارتكاسا مناعيا ساحقا كما هو الأمر في حالة <جلسينگر>، أو أنها تؤدي إلى نشوء ابيضاض الدم كما حصل في حالات أخرى.
لكي نعرف ما الذي أطلق هذه التأثيرات الجانبية ونكتشف كيفية تقليل خطر حدوثها؛ ركز العلماء اهتمامهم على طريقة التوصيل الأكثر شيوعا في العلاج الجيني: ڤيروس يعمل على هيئة مسدس ميكروسكوبي حاقن.
في البدء، يستأصل العلماء بعض جينات الڤيروس نفسه لتأمين مكان للجينات السليمة التي يراد توصيلها إلى المريض. (ولهذه الخطوة فائدة أخرى وهي منع الڤيروس المعدل بعد دخوله الجسم من التكاثر وإنتاج نسخ جديدة منه؛ الأمر الذي يقلل من احتمال حدوث ارتكاس مناعي.) عندئذ تحقن الڤيروسات المهيأة حسب الطلب في جسم المريض، حيث تقوم بغرز الجينات الجديدة في خلايا بعض أنسجة المريض التي تختلف باختلاف نمط الڤيروس المستخدم.
في الوقت الذي تطوع فيه <جلسينگر> للمشاركة في تجربة سريرية، كان طريق التوصيل المفضل مكّونا من الڤيروسات الغدّيّة adenoviruses التي باستطاعتها بشكلها الطبيعي إحداث خمج خفيف في الطرق التنفسية العلوية للإنسان. وقد قرر العلماء في جامعة پنسيلڤانيا أن أفضل فرصة للنجاح تكمن في حقن الڤيروسات في الكبد، حيث توجد الخلايا التي تقوم في الحالة الطبيعية بإنتاج الإنزيم الهضمي الذي يفتقر إليه <جلسينگر>، وقاموا بتعبئة نسخة من الجين الذي يُرمّز ذلك الإنزيم في الڤيروسات الغدية المعرّاة stripped-down adenoviruses، وحقنوا بعد ذلك تريليوناً من هذه الڤيروسات مع حمولتها المعتادة في كبد <جلسينگر>.بعد أن دخلت الڤيروسات جسم <جلسينگر> اتخذ بعضها طريقا منحرفا مأساويا. فقد دخلت إلى الخلايا الكبدية كما كان مخططا لها، إلا أنها أخمجت في الوقت نفسه أعدادا هائلة من البلاعم macrophages، وهي خلايا ضخمة جوالة تقوم بحراسة الجهاز المناعي، وكذلك من الخلايا المتغصنة dendritic cells التي تُبلِّغ عن وقوع الغزو. ويستجيب الجهاز المناعي بتدمير جميع الخلايا المخموجة، وهي عملية عنيفة خَرّبت في النهاية جسم <جلسينگر> من الداخل إلى الخارج.
فاجأت الاستجابة المناعية الضارية الباحثين. ولم يبد أي واحد من المتطوعين السبعة عشر الذين سبق أن عولجوا من المرض نفسه مثلَ هذه التأثيرات الجانبية. وكان الباحثون على علم بأن الڤيروسات الغدية باستطاعتها إثارة استجابة مناعية immune response، لكنهم لم يدركوا إلى أي درجة يمكن أن تكون الاستجابة عنيفة وذلك باستثناء حالة واحدة كـان تصميم التجربة فيها مختلفا بعـض الشيء، وأدت إلى مـوت القـرد الذي أجريت عليه التجربـة. ويقول <J. ويلسون> [من جامعة پنسيلڤانيا] الذي طور طريقة توصيل الڤيروسات المستخدمة في التجارب السريرية التي أسهم فيها <جلسينگر>: «إن أفراد الجنس البشري مختلفون إلى حد أكبر بكثير من الحيوانات التي تربى في المستعمرات، فقد شاهدنا في هذه التجربة استجابة مناعية مفرطة عند واحدٍ من أصل ثمانية عشر فردا أسهموا فيها». إن نظرة استرجاعية لهذه الحادثة تدعو إلى الاعتقاد أنه كان من الحكمة حقن عدد أقل من الڤيروسات الحاملة للجينات – عدة بلايين مثلا بدلا من تريليون واحد - في جسم المريض. كما اُنتقِد الباحثون لأنهم لم يخبروا <جلسينگر> وعائلته بموت قرد في تجربة مماثلة حتى يتمكنوا من تكوين فكرة عما إذا كانت هناك علاقة ما بين موت القرد ووفاة ابنهم.
لم يكن موت <جلسينگر> المأساة الوحيدة التي حدثت في سياق المعالجة الجينية، فبعـد تلك المـأساة بوقـت قصير أدت معالجة مرض آخر يدعى severe combined immunodeficiency Xl أو SCID-X1 - إلى حدوث خمس حالات من ابيضاض الدم عند الأطفال من أصل عشرين طفلا وانتهت إحداها بالوفاة. وفي هذه الحالة أيضا تبين أن هناك خطأ في طريقة توصيل الجينات. ففي هذه الحالة، تكونت قذيفة مسدس ميكروسكوبي microscopic gun، من الڤيروسات القهقرية retroviruses، وهي نوع من الڤيروسات تغرز ما تحمله من الجينات مباشرة في دنا DNA الخلايا. إلا أن تموضع الجينات العلاجية في الخلايا يجري كيفما اتفق، بحيث إن الڤيروسات القهقرية تغرز ما تحمله في بعض الأحيان في جين ورمي oncogene - أيْ في جين يستطيع أن يحدث السرطان في بعض الظروف.
نظرا لميل الڤيروسات الغدية إلى إحداث ارتكاسات مناعية مميتة وميل الڤيروسات القهقرية إلى إحداث السرطان، فقد بدأ الباحثون بالاهتمام بالڤيروسات الأخرى لمعرفة ما إذا كانت تعطي نتائج أفضل، وركزوا اهتمامهم على نوعين من الڤيروسات الأكثر ملاءمة لتحقيق ذلك الهدف.
استخدمت أولى طرق التوصيل الجديدة الڤيروسات المرتبطة بالڤيروس الغدّيّ (AAV)ا وهي ڤيروسات لا تُمرِض الإنسان (على الرغم من أن معظم الناس سبق أن انخمجوا بهذا الڤيروس في وقت من الأوقات). ونظرا لشيوع هذا الڤيروس، فمن غير المحتمل أن يسبب ارتكاسا مناعيا شديدا. كما أن له ميزة أخرى تساعد على التقليل من شأن التأثيرات الجانبية: ذلك أن له أنواعا متعددة أو أنماطا مصلية تفضل أنواعا معينة من الخلايا أو الأنسجة. مثال ذلك، أن النمط AAV2 يعمل بشكل جيد في العين، بينما يفضل النمط AAV8 الكبد، في الوقت الذي يتسلل فيه النمط AAV9 إلى أنسجة القلب والدماغ. ويستطيع الباحثون اختيار أفضل الأنماط لمعالجة أجزاء معينة من الجسم؛ مما يسمح بإنقاص عدد الڤيروسات التي نحتاج إلى حقنها، وبذلك نخفف من احتمال حدوث ارتكاس مناعي كاسح أو غير ذلك من الارتكاسات. إضافة إلى ذلك، فإن الڤيروسات الغدية تضع حمولتها خارج الصبغيات; ولذلك لايمكنها أن تسبب السرطان بشكل طارئ بسبب عدم تداخلها مع الجينات المسرطنة.
يتبع
لكي نعرف ما الذي أطلق هذه التأثيرات الجانبية ونكتشف كيفية تقليل خطر حدوثها؛ ركز العلماء اهتمامهم على طريقة التوصيل الأكثر شيوعا في العلاج الجيني: ڤيروس يعمل على هيئة مسدس ميكروسكوبي حاقن.
في البدء، يستأصل العلماء بعض جينات الڤيروس نفسه لتأمين مكان للجينات السليمة التي يراد توصيلها إلى المريض. (ولهذه الخطوة فائدة أخرى وهي منع الڤيروس المعدل بعد دخوله الجسم من التكاثر وإنتاج نسخ جديدة منه؛ الأمر الذي يقلل من احتمال حدوث ارتكاس مناعي.) عندئذ تحقن الڤيروسات المهيأة حسب الطلب في جسم المريض، حيث تقوم بغرز الجينات الجديدة في خلايا بعض أنسجة المريض التي تختلف باختلاف نمط الڤيروس المستخدم.
في الوقت الذي تطوع فيه <جلسينگر> للمشاركة في تجربة سريرية، كان طريق التوصيل المفضل مكّونا من الڤيروسات الغدّيّة adenoviruses التي باستطاعتها بشكلها الطبيعي إحداث خمج خفيف في الطرق التنفسية العلوية للإنسان. وقد قرر العلماء في جامعة پنسيلڤانيا أن أفضل فرصة للنجاح تكمن في حقن الڤيروسات في الكبد، حيث توجد الخلايا التي تقوم في الحالة الطبيعية بإنتاج الإنزيم الهضمي الذي يفتقر إليه <جلسينگر>، وقاموا بتعبئة نسخة من الجين الذي يُرمّز ذلك الإنزيم في الڤيروسات الغدية المعرّاة stripped-down adenoviruses، وحقنوا بعد ذلك تريليوناً من هذه الڤيروسات مع حمولتها المعتادة في كبد <جلسينگر>.بعد أن دخلت الڤيروسات جسم <جلسينگر> اتخذ بعضها طريقا منحرفا مأساويا. فقد دخلت إلى الخلايا الكبدية كما كان مخططا لها، إلا أنها أخمجت في الوقت نفسه أعدادا هائلة من البلاعم macrophages، وهي خلايا ضخمة جوالة تقوم بحراسة الجهاز المناعي، وكذلك من الخلايا المتغصنة dendritic cells التي تُبلِّغ عن وقوع الغزو. ويستجيب الجهاز المناعي بتدمير جميع الخلايا المخموجة، وهي عملية عنيفة خَرّبت في النهاية جسم <جلسينگر> من الداخل إلى الخارج.
فاجأت الاستجابة المناعية الضارية الباحثين. ولم يبد أي واحد من المتطوعين السبعة عشر الذين سبق أن عولجوا من المرض نفسه مثلَ هذه التأثيرات الجانبية. وكان الباحثون على علم بأن الڤيروسات الغدية باستطاعتها إثارة استجابة مناعية immune response، لكنهم لم يدركوا إلى أي درجة يمكن أن تكون الاستجابة عنيفة وذلك باستثناء حالة واحدة كـان تصميم التجربة فيها مختلفا بعـض الشيء، وأدت إلى مـوت القـرد الذي أجريت عليه التجربـة. ويقول <J. ويلسون> [من جامعة پنسيلڤانيا] الذي طور طريقة توصيل الڤيروسات المستخدمة في التجارب السريرية التي أسهم فيها <جلسينگر>: «إن أفراد الجنس البشري مختلفون إلى حد أكبر بكثير من الحيوانات التي تربى في المستعمرات، فقد شاهدنا في هذه التجربة استجابة مناعية مفرطة عند واحدٍ من أصل ثمانية عشر فردا أسهموا فيها». إن نظرة استرجاعية لهذه الحادثة تدعو إلى الاعتقاد أنه كان من الحكمة حقن عدد أقل من الڤيروسات الحاملة للجينات – عدة بلايين مثلا بدلا من تريليون واحد - في جسم المريض. كما اُنتقِد الباحثون لأنهم لم يخبروا <جلسينگر> وعائلته بموت قرد في تجربة مماثلة حتى يتمكنوا من تكوين فكرة عما إذا كانت هناك علاقة ما بين موت القرد ووفاة ابنهم.
لم يكن موت <جلسينگر> المأساة الوحيدة التي حدثت في سياق المعالجة الجينية، فبعـد تلك المـأساة بوقـت قصير أدت معالجة مرض آخر يدعى severe combined immunodeficiency Xl أو SCID-X1 - إلى حدوث خمس حالات من ابيضاض الدم عند الأطفال من أصل عشرين طفلا وانتهت إحداها بالوفاة. وفي هذه الحالة أيضا تبين أن هناك خطأ في طريقة توصيل الجينات. ففي هذه الحالة، تكونت قذيفة مسدس ميكروسكوبي microscopic gun، من الڤيروسات القهقرية retroviruses، وهي نوع من الڤيروسات تغرز ما تحمله من الجينات مباشرة في دنا DNA الخلايا. إلا أن تموضع الجينات العلاجية في الخلايا يجري كيفما اتفق، بحيث إن الڤيروسات القهقرية تغرز ما تحمله في بعض الأحيان في جين ورمي oncogene - أيْ في جين يستطيع أن يحدث السرطان في بعض الظروف.
نظرا لميل الڤيروسات الغدية إلى إحداث ارتكاسات مناعية مميتة وميل الڤيروسات القهقرية إلى إحداث السرطان، فقد بدأ الباحثون بالاهتمام بالڤيروسات الأخرى لمعرفة ما إذا كانت تعطي نتائج أفضل، وركزوا اهتمامهم على نوعين من الڤيروسات الأكثر ملاءمة لتحقيق ذلك الهدف.
استخدمت أولى طرق التوصيل الجديدة الڤيروسات المرتبطة بالڤيروس الغدّيّ (AAV)ا وهي ڤيروسات لا تُمرِض الإنسان (على الرغم من أن معظم الناس سبق أن انخمجوا بهذا الڤيروس في وقت من الأوقات). ونظرا لشيوع هذا الڤيروس، فمن غير المحتمل أن يسبب ارتكاسا مناعيا شديدا. كما أن له ميزة أخرى تساعد على التقليل من شأن التأثيرات الجانبية: ذلك أن له أنواعا متعددة أو أنماطا مصلية تفضل أنواعا معينة من الخلايا أو الأنسجة. مثال ذلك، أن النمط AAV2 يعمل بشكل جيد في العين، بينما يفضل النمط AAV8 الكبد، في الوقت الذي يتسلل فيه النمط AAV9 إلى أنسجة القلب والدماغ. ويستطيع الباحثون اختيار أفضل الأنماط لمعالجة أجزاء معينة من الجسم؛ مما يسمح بإنقاص عدد الڤيروسات التي نحتاج إلى حقنها، وبذلك نخفف من احتمال حدوث ارتكاس مناعي كاسح أو غير ذلك من الارتكاسات. إضافة إلى ذلك، فإن الڤيروسات الغدية تضع حمولتها خارج الصبغيات; ولذلك لايمكنها أن تسبب السرطان بشكل طارئ بسبب عدم تداخلها مع الجينات المسرطنة.
يتبع