كيف نستخدم البرنامج الهندسي بالشكل الأمثل
بدأت أقلب في ذهني هذه الحادثة لأعرف سبب ذلك الخاطر أو الهاجس الذي راودني , والذي انتقص من مكانتي كمهندس , والآن أظن أني عرفت السبب.
يتخرج المهندس من كلية الهندسة المدنية وهو يظن نفسه قادراً على اقتحام غمار هذه المهنة بما أوتي من عدة وعتاد, فالشهادة موجودة, والبرامج الهندسية موجودة مما تشتهيها النفس وتقر بها العين ويرتاح لها البال,ولم يبق إلا التطبيق وعلى قول البعض :
"خوذ يا برنامج معطيات, وهات يا برنامج نتائج ". و" يا محلى الشغل على البرنامج ",و " ويا هيك الشغل يابلا", " ولحق شغل إذا يتلحق". ويستمر النوم في العسل (عفواً الهندسة)
عند أول فرصة عمل, يبدأ المهندس الجديد باستعراض مهاراته المختلفة , فهذا المنشأ ينمذج على الساب وذك على الإيتاب, وهذه الحصيرة تحلل باستخدام السيف ( البرنامج المعروف وليس مايخطر ببال واحد مثلي), وهذا العمود يصمم وفق برنامج الإكسل الفلاني , والجائز يحتاج البرنامج العلاني......, وفي النهاية يطبع صاحبنا كماً هائلاً من الجداول والمخططات والمخرجات الحاسوبية ( منها ما يعرفه ومنها مالا يعرفه),فيجمعها بعضاً إلى بعض ويقذفها في وجهك مبتسماً وهويقول :"هاك المذكرة الحسابية" .(ملاحظة: عرض الابتسامة في وجه صاحبنا متر).
وأمام هذه الزحمة الخانقة من الأوراق يقف المدقق المسكين حيرانا, يقلب الاوراق من الأمام إلى الخلف ومن الخلف إلى الامام (روحة رجعة - روحة رجعة - روحة رجعة – ثم روحة بلا رجعة) لعل وعسى أن تقع عينه على ما يفيد في إعطاء تقييم منطقي لهذه الدراسة ولكن دون جدوى, والسؤال لماذا؟
السبب وبكل بساطة هو أن العقل الذي يتعامل مع هذا الكم الهائل من المدخلات والمخرجات والجداول والبيانات هو العقل الإلكتروني وليس العقل البشري ولكل منهما منهجيته المختلفة في التعامل مع الرقم.
فالبرنامج الحاسوبي يتعامل مع الأرقام ككتلة واحدة (أعطه مدخلات وخذ ملايين المخرجات) أما العقل البشري فيتبع منهجية مختلفة , فانطلاقاً من بعض المعطيات وبعض الافتراضات وباستخدام عمليات حسابية متسلسلة مترافقة مع الإحساس بالمنشأ الهندسي نحصل على مئات ثم آلاف النتائج , وهذا مالا يتوافر في البرنامج الحاسوبي , وأقصد به الإحساس بكل مرحلة, ولا يخفى على بعض الأساتذة الممارسين للمهنة تلك السعادة التي يشعر بها المصمم وهو ينتقل من تصميم عنصر إلى آخر وهو واثق من صوابية حسابه ومن أنه لامس بقلمه أو آلته الحاسبة المتواضعة هذا العمود أو ذاك الأساس, وتصل بك الحالة إلى أن تعرف كل عمود وكل أساس وكل جائز , كيف لا وقد أعطيته شيئاً من روحك وإبداعك, ( أدعي أني أحسست بها الشعور على الرغم من أني غر مبتدأ, وما أحلى هذا الشعور, والإحساس مو مثل الحكي).
إن هذه المنهجية تتيح تأملا أعمق وإدراكاً أوسع للنتائج , فتراك تزيد سقوط هذا الجائز أو تغير أبعاد ذاك العمود تبعاً لظروف الحساب المختلفة , واصطدامها بالمتطلبات المعمارية والوظيفية التي يجب لحظها أثناء عملية التصميم , وللمفارقة تحدث المفاجئات في كثير من الأحيان عند استخدام البرامج الحاسوبية في هذه المرحلة بسبب التركيز على النموذج وإهمال الواقع التصميمي ومثال ذلك إهمال بعض المهندسين لتأثير الفتحات الهامة في جدران القص, وبعد التحليل والتصميم ( وكل التعب) تضاف الفتحة على لوحة الأوتوكاد كأنها شيء لا قيمة له,ويتم إضافة تسليح التقوية على جوانب الفتحة وبهذا تحل المشكلة البسيطة (على حد علمهم)!!!!!
وأهم فائدة لهذه المنهجية برأيي هي عملية التوثيق (إعداد المذكرة الحسابية) لمراحل الحساب التفصيلي بالشرح والرسومات التوضيحية, فكل رقم في المذكرة إما أن يكون ناتجاً عن قانون أو اشتراط كود معين مشار إليه بشكل واضح لا لبس فيه,وتفيد عملية التوثيق المتبعة كلاً من المدقق والمصمم (وما بينهما ) ويمكن إيجازها بما يلي:
1) توثيق مراحل الحساب للمشروع بحيث يسهل للدارس الرجوع إليها عند التعديل .
2) معرفة انعكاس تأثير عملية التعديل لأحد العناصر الإنشائية على باقي العناصر الأخرى, وهذا يوفر الوقت اللازم لإعادة الحساب فيما لو لم يتم إنشاء هذه المذكرة بالطريقة المنطقية.
3) توفر قالب دراسة نموذجي يمكن أن يتبعه الدارس في جميع دراساته المستقبلية إن أحسن الاستفادة من تقنيات الحاسب وعمليات التغذية الراجعة.
4) مع مرور الزمن تتوفر للدارس خبرة لا يستهان بها لأنه اعتمد الحساب اليدوي التفصيلي , وهذا ما نلاحظه من بعض المهندسين الخبرة, حيث يصل بهم الحال إلى القول أن هذا العمود يحمل كذا طن, وان القص غير محقق في هذا الجائز وان تسليح هذا الأساس منطقي , ((ولا تستبعد أن يقول لك أنت تنفع تشتغل مهندس أو لا )) (وأنا شفت هذا بعيني يا جماعة ! وهنا زبدة الحكي) .
5) تسهيل عملية التخاطب بين الدارس والمدقق وهذا يوفر الوقت والجهد ويريح راس الاثنين, فالمشروع تحول من مسألة وحيدة معقدة إلى عدد من المسائل الجزئية البسيطة, يستطيع المدقق فهم كل مسألة على حدا ثم الربط بينها وصولاً إلى تدقيق كامل المشروع.
البرامج الحسابية الهندسية المحلية
يختلف وضع هذه البرامج المحلية عن البرامج الهندسية العالمية , إذ أن المشكلة في البرامج العالمية هي في إمكانية المهندس التعامل معها بالشكل الصحيح, أما نتائجها فهي حتماً صحيحة إذا كانت المدخلات صحيحة بشكل كامل, وهذا لا نقاش فيه إلا إذا كانت معلوماتي خاطئة.
أما البرامج المحلية فيمكن أن تكون نتائجها خاطئة حتى لو كانت مدخلاتها صحيحة, وهذا ناتج عن عدم الفهم الكافي للمسألة المدروسة بشكل صحيح سواء من قبل المبرمج آو المستثمر , أو عدم الأخذ بعين الاعتبار الحالات الخاصة , أو جهل المستخدم للكود المعتمد في البرنامج, فأنا لايمكن أن استخدم برنامجاً مصمماً وفق الكود المصري لمسألة تصمم وفق الكود السوري على الرغم من أن البرنامج صحيح (ملاحظة: البعض موفارقة معو, وكله عند العرب واحد).
هل نستغني عن البرامج الحسابية المحلية؟
طبعاً الكلام السابق ينطبق بالدرجة الأولى على بعض المهندسين المتعدين على البرمجة والذين دخلوها من الباب الضيق, ومع الاعتراف بفضل الأساتذة السابقين والسباقين في هذا المجال من أصحاب البرامج الهامة (شخصياً أثق ببرنامج الجواد بييم للمهندس المفخرة عبد الجواد الحاج يونس وفقه الله , وهذا هو البرنامج الوحيد الذي جربته وأنا واثق من وجود برامج أخرى لأساتذة أفاضل أرجو أن تتاح الفرصة لي لاستخدامها بعد التعرف عليها وتجريبها من خلال المنتدى ).
البرامج الهندسية العالمية
إن حل هذا الإشكال سهل فبالنسبة للمشاريع الكبيرة نحتاج إلى السرعة لإنجاز الدراسة, وهذه السرعة لا تعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الدقة أو النتائج الصحيحة التي لا يمكن التحقق منها إلا بالحل اليدوي , ودون هذه العملية تتحول السرعة إلى تسرع وشتان مابين المعنيين.
أما بالنسبة للمشاريع المعقدة فيجب أن نتوقع أن النتائج ستبدو للوهلة الأولى معقدة أو غير منطقية, وإذا لم تكن هناك قدرة على فهم هذه النتائج وتفسيرها فتأكد أن هناك نقصاً في دراستك , لأن هناك العديد من الأسئلة المعلقة تحتاج إلى جواب , وإذا لم يكن بإمكانك أن تفهم نتائجك فكيف ستقنع بها غيرك , ( يتجاوز العديد من المصممين ومن ورائهم المدققين هذه النقطة , ويعضهم يعلقها بفعل متستر تقديره الله أعلم ).
الخبرة والبرامج الهندسية
لأن الخبرة لا تأتي إلا بعد سنين- لن أقول طويلة- يمارس فيها المهندس الهندسة (على أصولها), ولا يكون الوصول إلى النتيجة إلا بعد أخذ ورد ,واستخدام الطرق التقريبية والمبسطة للوصول إلى الحل بأحسن دقة مقبولة وبعدها يمكن أن يقول المهندس عن نفسه: أنا عندي خبررررة.
حتى الخبرة التي نتحدث عنها – على الرغم من اهميتها والجهد الذي بذله أصحابها-تحكم على بعض النتائج بالقول : هذه نتائج منطقية أو بالقول هذه نتائج قريبة من الواقع .
وسيدرك كل من تعامل مع أحد هؤلاء المهندسين من ذوي الخبرة ما أقصده, حيث يستخدمون حسهم الهندسي وخبرتهم للقبول أو عدم القبول المبدئي بالنتائج التي تقدمها لهم (بعد دراستك للمشروع بأي طريقة تريدها) لكن ليس للجزم بدقة وصحة النتائج, وسيكون الفيصل بالنسبة له هو قوله: (سأطلع على طريقة الحساب لأعطي الرأي النهائي) فلا تستغرب من صاحب الخبرة هذا القول.
ومثال ذلك:
لنفرض أنك تدرس حصيرة مبنى مكون من 6 طبقات ,فإذا نتج معك بالحساب أن سماكة الحصيرة 70cm وان تسليحها 7T25/m بالاتجاهين علوي وسفلي, سيقول لك صاحب الخبرة :هذا منطقي.
ولنفس الحصيرة إذا نتج أن التسليح 7T14/m بالاتجاهين علوي وسفلي, سيقول لك هذا غير منطقي.
لكن ماذا لو تبين بعد التدقيق وتسليح الخطأ الممكن حدوثه أن التسليح الصحيح هو 10T25/m علوي وسفلي بالاتجاهين؟
نلاحظ أن الخبرة والحدس الهندسي اقترب بشكل منطقي من الحل الصحيح ورفض الحل الخاطىء إلا أنه لم يعط الحل الدقيق بالدقة المطلوبة, وهذا- من وجهة نظري - أقصى ما يتمناه المهندس صاحب الحدس السليم.
ضرورة البرامج الهندسية
أعود وأكرر القول أن المشكلة ليست في البرامج الهندسية وإنما فيمن يستخدمها (استثني من فتح الله عليه ), فعملية اكتشاف الأخطاء في النموذج المدروس وإصلاحها مع القدرة على تقييم النتائج عملية غير سهلة كما بينت سابقاً , وأكثر من يقع في هذا المطب هم المهندسون حديثو التخرج حتى مع إتباعهم الدورات المخصصة لهذه البرامج, حيث يظن أحدهم أن النتائج صحيحة فقط لأن الحاسب هو الذي قام بعملية الحساب والتصميم, وهذا تنصل من المسؤولية, فالمهندس هو الذي يقوم النمذجة , وهو الذي يعرف المواد والحمولات ومقاطع العناصر والكود المستخدم في التصميم, وهو الذي يحدد النتائج ويقيمها ,ومن هنا تنبع مسؤولية المهندس.
أحب أن ألفت نظر الأخوة الأعزاء أنني أجهل استخدام البرامج الهندسية وما ذكرته عنها لا يتعدى بعض المعلومات التي قذفني بها الزملاء من هنا وهناك علهم يفلحون في تعليمي أحد هذه البرامج لكن دون جدوى.
في الختام أنوه بالنقاط التالية أنصح بها نفسي وإياكم:
1) تنظيم حسابات المشروع ضمن مذكرة حسابية متكاملة, تسهل عمل الدارس والمدقق وتنمي الخبرة والحدس الهندسي.
2) التحقق من البرامج المحلية قبل استخدامها وذلك بمقارنة نتائجها مع نتائج الحل اليدوي حتى لو كنت أنت صاحب البرنامج.
3) أن لا يفهم الزملاء أني ضد البرامج الهندسية , ولكن أنا ضد أن يقود البرنامج المهندس , وأدعو إلى أن يقود المهندس البرنامج.
:55: