جودي مجدي الحسيني
عضو جديد
- إنضم
- 6 نوفمبر 2005
- المشاركات
- 669
- مجموع الإعجابات
- 16
- النقاط
- 0
العمارة العضوية ومفهومُها الإسلامي
ارتبط مفهوم العضوي (Organic) دائما بالطبيعة والكائنات الحية أو بكل ما يدب و ينبض بالحياة في عالمنا المحيط. وربما تأخذ دلالاتهُا منحى أبعد و تعني المنظومة التي تشكل الكل وتتكامل بوظائف الجميع. ثم نجدها ترد في العمارة كأسلوب وكمدرسة فكرية آثرت أن تكون متناغمة مع البيئة والطبيعة بدون أن تعنفهَا أو تقتطع منها شيئاً بل على العكس تتجانس مع عناصرها وتكمل انسجامَها وتوازنهَا
كانت بواكير التفكير المعماري لدى البشر تنحصر في التقليد، وخصوصا من إيحاءات البيئة المحيطة أو العناصر البيئية ولاسيما العضوية منها، مثل محاكاة الهيكل البنائي للهيكل العظمي أو حتى محاكاة الحيوانات عندما تعمل مساكنهَا وأعشاشهَا. ويعتبر أرسطو أن سبب نشوء الفن يعود إلى وجود النزعة الفطرية لدى الإنسان بالمحاكاة، وهو ذو وظيفة اجتماعية يخدم من خلالها الراحة والتسلية.
وتداخلت العضوية مع الشكل بصيغة جوهرية، وتطور هذا التداخل منذ القرن الثامن عشر حين جاءت علوم الأحياء، وبدأت دراسة الكائنات الحية وتشريحها وتتبع عمليات نموها وتطورها. وبدأ استعمال كلمة مورفولوجي(Morphology) التي أدخلها الفيلسوف الألماني (كــوته): الذي وصف الظاهرة العضوية أي نظام للمجتمع لا يكون عضوياً من حيث تكوينه بما يضمن له التطور والنمو المتجانس والمتماثل في جميع أعضائه..فأن مصيرَه الانهيار). واستمر ذلك في القرن التاسع عشر بعد ظهور علم النفس. ومنها انتقلت إلى العمارة التي كان (لويس ساليفان) والمدرسة الأمريكية "الواقعية" الأثر الكبير في تطورها اللاحق.
وأهم ما يميز الكائنات العضوية هي أن فيها (قوة كامنة) بم، ومنتبط بعمليات النمو والتحول والحركة التلقائية، والتناسل والهضم والتمثيل وغيرها من العمليات الحيوية، وكذلك كل العلاقات المركبة بين الأجزاء أو الأعضاء التي تدخل في تكوين الكائنات.والأشكال في الطبيعة ناشئة تحت تأثير قوانين الكون الع، إلاومنن تفاعلاتها مع بعضها البعض، كالجاذبية والنشوء والارتقاء والنمو والتماسك، ثم التآكل، والتحلل، والموت، والفناء.ورغم أن الأشكال في الطبيعة متنوعة وكثيرة، لا حصر له، إلاا أن أشكالها ذات صلة مباشرة بهذه العوامل،كلها التي أثرت فيها وتسببت في وجودها وفي اتخاذها الأشكال التي هي عليها.
و ثمة جدلية حول كيفية تداخل مفهوم العضوية مع المفهوم الديني الروحي المرتبط بالخالق المبدع سبحانه فاطر الأرواح ومصور هيئة الأشياء بنظام ٍ واسع موحد الجوهر ومتغير المظاهر والأشكال بحسب ما أراد أن يوظِفَهُ الخالق ، وهذا ما نسميه بوحدة الوجود أو الفلسفة التي أوحت بالفكر الديني التوحيدي. وأن التأقلم مع الظروف الطبيعية للكائنات قد جاء على هيئةٍ عضويةٍ مسترسلةٍ مع تطور الحياة. أن هذه المنظومة المبنية على تشابه الماهية الأساسية لكل ما أبدَعه الخالق سوف تنعكس حتما على مراحل نموها و تطورها الذي عادة ما يتخذ منحنىً تدريجياً تصاعدياً تلعب فيه الظروف المحيطة وعامل الزمن دورهما المؤثر. ولذلك تأتى التغيرات فيها بطيئة ومتجانسة وإيقاعية والطفرات فيها شاذة. وهذا المفهوم التّدرجي أنعكس صداه في الفكر الديني المتجانس مع "العضوية" التطورية.
إن وحدة التطور كانت نتاجاً لوحدة العقيدة و المعرفة والحقيقة و الدين والفلسفة وببساطة فإن الفعل واحد بين العقل والنفس. حتى سمت هذه العضوية الفلسفية ووصلت لتعلن اتفاق حرية الفكر مع استقامة الدين. ويقول أحد المستشرقين عن تلك المعادلة: (المسلمون أول من علم العالم كيف تكون الحضارة وكيف تكون العمارة).
و جاء الإسلام بحلول ٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ بصيغ (عضوية)، وقد ورد حديث للنبي الكريم (ص) : (مثلكم كمثل الجسد الذي أشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى) ،وفي ذلك إيحاءات عضوية صريحة بتنظيم العلاقات الاجتماعية. وبنفس السياق سلكت العمارة خطا منهجيا لم تنل خلالَه مما ورثته الشعوب التي ارتضت الإسلامَ دينا، بل نظمته وجعلت له ضوابط. وما العمارة الإسلامية إلا الحالة المادية لروح الدين المتراضية والمنسجمة مع كل موروث رصين، ولم يكن ذلك مكوثا في كنف التاريخ لأن العضوية هنا كانت تؤمن بحركة التاريخ، وفرقت بين تيارات التاريخ ومتاحف التاريخ . وبذلك جاء احترام خصوصيات الشعوب الإسلامية إحدى سمات العمران والعمارة ، ولدينا كثير من الأمثلة في ذلك وما قول الرسول (ص) "بأن الخلق أعرف بدنياهم" ما يؤكد ذلك ويشكل الإسلام المنظم "العضوي" لحركة الخلق .
لقد تجسدت "عضوية" الإسلام أولا في العمران الذي جاء متجانسا مع المحيط البيئي حيث جاءت صحراوية في الصحراء وجبلية في الجبال وداخلية في الداخل وبحرية على الشواطئ والجزر، ونجده قد نما ببطيء عضوي فذ وورد بهيئة محاكية لفروع الشجرة كما نراه في المخطط العام لمدن الإسلام عامة. ثم أنعكس الأمر في العمارة بالنموذج الأول لدى بناء المسجد الجامع في المدينة الذي أراد الرسول (ص) أن يظهر فيه المنهجية التعاونية والاقتصادية للمجتمع فحواها زهد البناء وبساطته ،أما من الناحية التنظيمية فقد قدم الجدوى الوظيفية المتمثلة بالصلاة ، بالرغم من أنها فقهيا تحل في أي مكان على الأرض . ثم البس تلك الوظيفية بعمارة، جوهرها حماية المسلمين من الشمس والمطر والريح. فجاءت سقيفة جزئية وفناء واسعاً مكشوفاً يوظف لعدد كبير من الوظائف تتفق مع جوهر التجمع، وأحاطها بسياج ليحدد أبعادَها ومداها وعدم تطاولها على ما جاورَها.
ثم بدأ تمصير الحواضر مبكرا بعد ذلك فقد نشأت البصرة والكوفة ، وجاءت الخطط (عضوية ) فالمسجد كالقلب النابض المحاذي لدار الأمارة التي تلعب دور البؤرة الإدارية -السياسية للدولة ،والتي تتكامل مع وظيفته الروحية –الثقافية. ثم يطوق ذلك بالأسواق و الرياض وقسمت رياض المدينة إلى مناطق تخترقها الشوارع وتتفرع منها الأزقة التي يتدرج وسعُها بالانسجام مع طبيعة استعمالها : من العمومي إلى شبه الخاص ثم الخاص وهذا ما يدعونه بـ (تسلسل نموذج الفراغات العامة والخاصة).
و النسيج الشوارعي لأية مدينة إسلامية من دلهي حتى سلا ومن سمرقند حتى الزنجبار يحاكي لناظره الأوردة في الجسم العضوي. وعمارة مسجد الرسول ونظام الطرق يشكل إحدى التطبيقات العملية للنظام العمراني (العضوي) ويمثل انعكاسا طبيعيا لحركة اجتماعية وفكرية عضوية تضمن التطور المتجانس في أعضائه مثل الشجرة التي ترتبط جميعُ فروعها بمركز جذورها الضاربة في عمق الأرض.
والعمارة العضوية في زماننا هي تيار فكري يعود بجذوره إلى منتصف القرن التاسع عشر جاءت بعد شعور الإنسان بالخطر الداهم الذي تمخض عن غلواء الثورة الصناعية، مما أرجعه إلى الطبيعة يستوحي من وازع المحافظة عليها فكراً عاماً أنتقل إلى الفلسفة وتعداه إلى التطبيق الرومانسي ليتداخل تباعا مع منظومة العمارة والفنون . ولم تأخذ تلك الحركة منحىً دينياً بالرغم من التناغم في المسار المحافظ المشترك . وقد نشطت جذوتهُا خلالَ بواكير القرن العشرين واستمرت حتى اليوم بصيغة (العمارة البيئية أوالعضوية الجديدة) . ويمكن اعتبار ذلك التيار صنواً وتابعا للمدرسة الوظيفية في العمارة التي نادت بمبدأ"الشكل يتبع الوظيفة" والتي عجزت فيما بعد للإجابة عن النواحي النفسية والعاطفية للإنسان والتي وجدت المدرسة العضوية الكفاءة في كنهها لرتق تلك الفجوة.
وتناغما تيارا الوظيفية والعضوية على تبني نفس المبدأ "الشكل يتبع الوظيفة" وجاء مفهوم الوظيفة هنا هو مدى الانتفاع من العمارة وهي الدافع الداخلي الذي يوجد الشكل، وأن نجاح الشكل يعود إلى خدمه الوظيفة والتعبير عنها. ولكن العضويين زادوا على ذلك بأن الشكل والوظيفة شئ واحد ويمكن أن يلد أحدهمُا من الأخر . وبدأ هذا التيار الفكري في أميركا على يد المعمار( لويس ساليفان) الذي أراد بها(الحياة والتطور) وأعتبرها البحث عن الحقيقة والعمل ضد ضياع الشخصية وتفكك التراث . وقد تبعه تلميُذه ( فرانك لويد رايت) الذي جعل العضوية تنتسب إليه لأنه وببساطة طورَها و أعطاها مدىً ومعنىً متكاملين .
يرى العضويون أن الطبيعة يجب أن تكون المعلم الأول ومبادئها ودروسَها أفضلُ زادٍ للمعمار. فوحدة العمل المعماري أساسية وعلى العمارة أن تتحد فيها المنفعة والمتانة والجمال بطريقة لا يمكن فصلُ أحدهما عن الآخر تماما كوحدة أي كائن طبيعي.وبذلك يجب أن تظهر صفات ومزايا أي بناء في كل جزء من أجزائه بحيث يحمل الجزء صفات الكل ويدل عليه ويعبر عنه ولابد أن يربط المبنى بأجزائه إيقاعٌ دقيق منسجم كما في الكائنات الحية. ويقول في ذلك[(رايت في العمارة ) لاشيء تام بنفسه و إنما هو تام كجزء مندمج في التعبير العام "للكل"]. وعلى صعيد آخر فأن المبنى يجب أن يكون جزءا من الطبيعة يغنيها ويغتني بها وأن يستعملَ المعمار في هذا المجال الموارد وفق افضل إمكانياتها وفي حدود طبيعتها وهنا لا يمانع العضويون في أن تستعمل المباني أية مواد بناء متاحة في البيئة، ناهيك عن عدم اتخاذها أية أشكال مسبقة ومقولبة .
.