الباب الأول - الفصل الأول - المبحث الأول (خَلَقَ اللهُ آدمَ على صورته)
المبحث الأول : خَلَقَ اللهُ آدمَ على صورته
أولاً : سياق الحديث أو الأحاديث المتوَّهم إشكالها :
* فى الصحيحين من حديث أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
" خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ، فلمَّا خلقه قال: اذهب فسلِّم على أولئك – نفر من الملائكة جلوس – فاستمع ما يُحَيُّونَك فإنها تحيَّتك وتحيَّة ذريَّتك، فقال: السلام عليكم ، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله ، فكل مَن يدخل الجنة على صورة آدم ، فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن".
* عند مسلم من حديث أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته ".
ثانياً : بيان وجه الإشكال :
استشكل بعض أهل العلم قوله "خلق الله آدم على صورته" ، حيث فهموا منه أن ضمير الهاء فى كلمة (صورته) يعود إلى الله تعالى، وهذا يلزم منه التشبيه، أى تشبيه صورة آدم عليه السلام بصورة الله تعالى، ومعلوم أن التشبيه بين الله وخلقه مُحرَّم كما ذكرنا فى معتقد أهل السنة والجماعة فى أسماء الله وصفاته.
ثالثاً : أقوال أهل العلم لإزالة هذا الإشكال :
* وَرَدَت روايات صحيحة صريحة فى أن ضمير الهاء فى كلمة صورته يعود إلى الله تعالى وليس إلى آدم عليه السلام، منها ما رواه الطبرانى بسند صحيح من حديث ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "لا تُقبِّحُوا الوجه، فإنَّ ابن آدم خُلِق على صورة الرحمن".
* سُئِل الإمام أحمد عن حديث "خلق الله آدم على صورته"، فقالوا: على صورة آدم ؟ ، فقال لهم: (فأين الذى يُروَى عن النبى صلى الله عليه وسلم "أن الله تعالى خَلَق آدم على صورة الرحمن" ، وأى صورة كانت لآدم قبل أن يُخلَق ؟) ، أى أن الإمام أحمد يرد عليهم عندما قالوا بأن الهاء عائدة على آدم عليه السلام، فقال: وأى صورة كانت لآدم قبل أن يُخلَق ؟ أى كيف على صورته وهو لم يُخلَق بعد ؟
* بوَّب الإمام الآجُرِّى فى كتابه الشريعة باباً بعنوان الإيمان بأن الله خلق آدم على صورته بلا كيف، ثم ساق فيه هذا الحديث بطرق متعدِّدة، ثم قال: (هذه من السنن التى يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يقال فيها كيف؟ ولم؟ ، بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر).
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع فى أن الضمير عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كله يدل على ذلك ...... ، ولكن لما انتشرت الجهمية فى المائة الثالثة جعل طائفةٌ الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى، حتى نُقِل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة فى عامة أمورهم كأبى ثور وابن خزيمة وأبى الشيخ الأصبهانى وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة).
* قال الإمام أحمد: (مَن قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جَهْمِىّ، وأى صورة لآدم قبل أن يخلقه؟ ).
آراء أهل العلم فى المسألة : انقسموا إلى أربعة آراء هى :
الأول : فى القرون الثلاثة الأولى المفضلة (من سنة 1هـ إلى سنة 220 هـ)
لم يكن هناك رأى ولا نزاع ، فكل أهل العلم رأوا أن ضمير الهاء فى كلمة (صورته) عائد إلى الله تعالى. وهو الرأى الصحيح الراجح فى المسألة.
الثانى : بعد القرون الثلاثة الأولى
ظهر قولٌ بأن ضمير الهاء عائد إلى آدم نفسه، وليس إلى الله تعالى ، وهذا رأى مرجوح غير صحيح ، لأن حديث ابن عمر صحيح صريح فى أنَّ خَلْق آدم عليه السلام على صورة الرحمن.
والذى قال بهذا القول اثنان :
1- فرقة الجهمية ، وهولاء لا يُعتَد بقولهم ولا يُنظَر إليه، لأنها فرقة ضآلة خرجت عن معتقد أهل السنة والجماعة فى كثير من الأمور.
2- بعض العلماء من أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم :
(إبراهيم بن خالد أبو ثور ، محمد ابن خزيمة ، محمد الأصبهانى ، الخطابى). ويُعذَروا إلى الله بزللهم فى هذه المسألة لأنهم كانوا أهل علم ثقات وأصحاب عقيدة سليمة، من أهل السنة والجماعة.
واستدلوا على قولهم هذا بأمور هى :
أ- حديث " خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ....." ، فقالوا أن لفظة طوله ستون ذراعاً توضِّح أنَّ الضمير عائد إلى آدم عليه السلام، وعليه فضمير الهاء فى صورته عائد أيضاً إلى آدم عليه السلام.
ب- قالوا أنَّ حَمْلِ الحديث على ظاهره يلزم منه لوازم فاسدة وهى تشبيه المخلوق بالخالق، وهو تشبيه مُحرَّم ولا يَصِح فى صفات الله وذاته. فأوَّلوا المعنى بأنه عائد إلى آدم عليه السلام ليفروا من التشبيه.
الثالث : لعلماء القرون بعد الثلاثة ، وهو ما عليه جمهور العلماء
رأوا نفس رأى علماء القرون الأولى بأن الضمير عائد إلى الله تعالى، وأن إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة الصفة للموصوف ، وبهذا يكون جمهور العلماء الأوائل والمتأخرين على هذا الرأى فيما عدا الأربع أئمة المذكورين بالرأى الثانى (أبو ثور، ابن خزيمة، الأصبهانى، الخطابى).
وعلى رأس هذا الرأى من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية الذى أطال الكلام جداً على هذا الحديث كما تقدَّم بعض الأقوال له، وأفاد بأن الضمير عائد إلى الله وليس آدم عليه السلام، وأن إضافة الصورة إلى الله من باب إضافة الصفة للموصوف وليس من باب إضافة المخلوق إلى خالقه.
واستدل هو وغيره من العلماء على صحة رأيهم هذا بالآتى :
1- حَمْلِ النصوص السابقة على ظاهرها، وهو الأصل والقاعدة فى الأخذ بالنصوص الشرعية خاصة نصوص الأسماء والصفات كما أشرنا من قبل.
2- روايات أخرى صحيحة صريحة بأن خَلْق آدم عليه السلام كان على صورة الرحمن، مثل :
- رواية ابن عمر سابقة الذِّكر
- رواية أبى هريرة عند ابن أبى عاصم فى السنة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن ".
الرابع : للإمام محمد ابن خزيمة :
وهو أن الضمير عائد إلى الله تعالى، وأن إضافة الصورة إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، وليس من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
مثل : (ناقة الله، عبد الله، أَمَة الله) ، فكلها إضافة مخلوقين إلى خالقهم.
وهذا الرأى للإمام ابن خزيمة أيضاً ، وقد قاله رداً على افتراض صحة حديث (على صورة الرحمن) لأنه عند ضعيف، وقال إن صحَّ الحديث فيكون الضمير عائد إلى الله، ولكن إضافة الصورة إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه.
ردُّ أهل العلم (أصحاب الرأى الثالث المماثل للرأى الأول) على الأقوال المرجوحة الخاصة بأصحاب الرأى الثانى والرابع :
(1) ردُّوا على قولهم: أن الهاء عائدة على آدم عليه السلام، وإن إعادتها على الله تعالى يقتضى التشبيه بين الله تعالى وآدم عليه السلام.
أ- بأن هذا فيه بُعدٌ عن حمل النصوص على ظاهرها، وأنه تأويلٌ غير مراد، لأن القول به لا يقتضى التشبيه. إذ أنه لا فرق بين إثبات هذه الصفة (الصورة) لله تعالى وبين إثبات باقى الصفات التى يُتوهَّم منها حدوث المشابهة والمماثلة (كاليدين والوجه والعين والأصابع) ، فعلى فرض تأويل الصورة بأنها على صورة آدم للفرار من التشبيه، فيجب أيضاً تأويل صفة اليدين والوجه والعين والأصابع للفرار من التشبيه، وبهذا لن نُثبِت صفة واحدة من الصفات التى أثبتها الله لنفسه.
قال ابن قتيبة : (والذى عندى - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها فى القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأتِ فى القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول فى شىء منه بكيفية ولا حد).
ب- ورود الروايات الصحيحة الصريحة التى لا تحتمل التأويل بأن صورة آدم على صورة الرحمن ، مثل روايات (ابن عمر، وأبى هريرة) التى تقدَّم ذكرها.
ج- لا معنى فى أن نقول: أن الله خلق آدم عليه السلام على صورة آدم، لأن آدم عليه السلام هو أول مَن خُلِق من البشر، وصورته تكون بعد خلقه، وليس قبلها أما لو قلنا مثلاً : بأن الله خلق إدريس أو نوح على صورة آدم، عليهم السلام أجمعين ، لكان هناك معنى لوجود صورة مُسبَقة (صورة آدم عليه السلام) ننسب إليها صورة إدريس ونوح عليهما السلام.
وهذا هو ما أشار إليه الإمام أحمد فى قوله: (وأى صورة كانت لآدم قبل أن يُخلَق ؟) أى كيف على صورته وهو لم يُخلَق بعد ؟
(2) ردُّوا على القول الرابع لابن خزيمة: بأن الهاء عائدة على الله تعالى، ولكن إضافة الصورة إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
أ- بأن إضافة المخلوق إلى الخالق جاءت فى الأعيان القائمة بنفسها: كالناقة والبيت والأرض، أما الصفات القائمة بغيرها (التابعة): كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والصورة إذا أضيفت يجب أن تكون إضافة صفة إلى موصوف.
ب- أن الحديث الذى نهى عن ضرب الوجه فى القتال (حديث أبى هريرة)، لو كان يعنى إضافة المخلوق إلى خالقه لاستلزم هذا أن ينهى عن ضرب جميع الأعضاء لأن كل الأعضاء خلقها الله.
ج- وهو تعميم للرد السابق ، أنه من المعلوم أن جميع ما يُضْرَب ويُشْتَم من الموجودات هى مخلوقات من خلق الله تعالى مملوكة له، وعليه فلو كانت الصورة من إضافة المخلوق إلى خالقه، لاستلزم ووَجَب ألا يُضرَب أى مخلوق من المخلوقات.
خلاصة القول فى مبحث خلق الله آدم على صورته، والذى به يزول الإشكال :
الهاء فى كلمة (صورته) عائدة إلى الله تعالى، أى على صورة الرحمن، بحمل النص على ظاهره، ومن نصوص أخرى صحيحة صريحة. ويجب الإيمان بذلك والإقرار والتصديق به من غير بحث عن الكيفية والمعنى، إذ أن الصورة هنا مضافة إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف شأنها شأن باقى الصفات (كاليدين، والوجه، والعين، والأصابع) بغير كيفية، وليست من إضافة المخلوق إلى خالقه فهذا خطأ وباطل. وبهذا يزول الإشكال.
وهذا هو قول جمهور العلماء من المتقدمين والمتأخرين ، ولم يخالفه إلا مبتدع كالجهمية ، أو مخطىء زَلَّ ويُعذَر كالأئمة (ابن خزيمة، وأبى ثور، والأصبهانى، والخطابى).
فائدة فى بيان معنى عبارة (على صورته) :
قلنا أن الكيفية والهيئة تُوكَل إلى الله تعالى، لذا فالأَوْلَى أن نسكت كما سكت السلف ، وأن نَرُد علمها إليه سبحانه، مع الجزم بأن الله ليس كمثله شىء.
ولكن ذهب البعض بأن المعنى هو بيان أن آدم عليه السلام خُلِق ذا وجه متصفاً بالسمع والبصر والكلام، والله تعالى له سمع وبصر ويتكلم. وعليه فآدم عليه السلام مخلوق على صورة الله من هذه الحيثية، ولا يلزم بل لا ينبغى من ذلك المماثلة والمشابهة، فلا يلزم أن يكون الوجه كالوجه والسمع كالسمع والبصر كالبصر، وهكذا لا يلزم أن تكون الصورة كالصورة، تعالى الله عن ذلك، "ليس كمثله شىء وهو السميع البصير".
قال شيخ الإسلام فى الصفات: (ما مِن شيئين إلا وبينهما قَدْر مشترك وقَدْر فارق ....، فمن نفى القدر المشترك فقد عطَّل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثَّل).
فالشيئان هما صورة الله تعالى، وصورة آدم عليه السلام أو صورة بنيه.
والقدر المشترك هو : الاسم والمعنى
والقدر الفارق هو : الكيفية والهيئة
وعليه فمن نفى القدر المشترك فهو من المعطِّلة أو المفوِّضة النفاة.
ومن نفى القدر الفارق فهو من الممثِّلة والمشبِّهة.
فائدة من الأحاديث السابقة فى بيان حكم الضرب على الوجه :
لا يجوز ضرب المسلم على وجهه ، بأي نوع من أنواع الضرب ، سواء كان على سبيل التأديب ، أو التعليم ، أو التدريب ، أو إقامة حد أو تعزير.
وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ ".
ولقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن ".
قال النووي : ( هَذَا تَصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ ضَرْب الْوَجْه ; لِأَنَّهُ لَطِيف يَجْمَع الْمَحَاسِن , وَأَعْضَاؤُهُ نَفِيسَة لَطِيفَة , وَأَكْثَر الْإِدْرَاك بِهَا ; فَقَدْ يُبْطِلهَا ضَرْب الْوَجْه , وَقَدْ يُنْقِصُهَا , وَقَدْ يُشَوِّه الْوَجْه , وَالشَّيْن فِيهِ فَاحِش ; وَلِأَنَّهُ بَارِز ظَاهِر لَا يُمْكِن سَتْره , وَمَتَى ضَرَبَهُ لَا يَسْلَم مِنْ شَيْن غَالِبًا ).
وقال الحافظ ابن حجر: (وَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ كُلّ مَنْ ضُرِبَ فِي حَدّ، أَوْ تَعْزِير، أَوْ تَأْدِيب).
وقال الصنعاني : ( وهذا النهي عام لكل ضرب ولطم من تأديب أو غيره ).
فى الحديث دلالة على عدم جواز ضرب الوجه حتى في حال المقاتلة والدفاع عن النفس.
وأجاب الشيخ ابن باز - حينما سئل فى أحد الدروس عن الضرب على الوجه هل هو عام فى المرأة وغيرها - بقوله : ( نعم حتى في الدابة، يحرم ضرب الوجه مطلقًا، فقوله " إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه " في الدابة وفي غيرها وفي المرأة والولد والخادم ).
فصل فى بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم " فيأتيهم الله فى صورة غير صورته التى يعرفون " :
* فى الصحيحين من حديث أبى هريرة، أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال: " هل تُضارُّون فى رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تُضارُّون فى الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تبارك وتعالى فى صورة غير صورته التى يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى فى صورته التى يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ، ويُضرَب الصراط.... " الحديث.
* فى الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدرى الطويل، والشاهد منه :
" ..... حتى إذا لم يبقَ إلا مَن كان يعبد الله مِن بر وفاجر، أتاهم رب العالمين فى أدنى صورة من التى رأوه فيها ، ..... فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ؟ ..... ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل فى صورته التى رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يُضرَب الجسر على جهنم ..... " الحديث.
* وفى رواية عند البخارى، والشاهد منها :
" فيأتيهم الجبَّار فى صورة غير صورته التى رأوه فيها أول مرة .... " الحديث.
قال ابن تيمية فى هذه الرويات: (هذا حديثان من أصح الأحاديث).
وهذه الرويات تدل على الآتى :
(1) إثبات الصورة لله تعالى، فهى دليل بجانب الأدلة السابقة على ذلك.
(2) بحمل الألفاظ على ظاهرها، يثبت أن الناس رأوه رؤية متقدِّمة فى صورة معينة.
(3) أن الله يأتيهم فى صورة أخرى غير الصورة المتقدمة التى رأوه عليها، فينكرون أنه هو بل يستعيذون بالله من ذلك.
(4) أن الله يأتيهم مرة ثالثة فى نفس الصورة الأولى التى عرفوه بها.
(5) أن الله يتحول من صورة إلى صورة، فيأتى الناس ثلاث مرات فى صور متغيرة هى :
الأولى : الصورة التى يعرفه الناس بها يوم القيامة.
الثانية : صورة تختلف عن الأولى، لا يعرفها الناس فينكرونها ويستعيذون بالله منها.
الثالثة : هى نفس الصورة الأولى التى عرفه الناس بها.
أقوال أهل العلم فى هذه الروايات :
* ذهب بعض أهل العلم - كأبى عاصم، والدارمى – إلى تأويل هذا الحديث وصرفه عن ظاهره.
قال أبوعاصم : (ذلك تغيُّر يقع فى عيون الرائين كنحو ما يُتخَيَّل إلى الإنسان الشىء بخلاف ما هو به فيتوهَّم الشىء على الحقيقة).
قال الدارمى: (إن الله لا تتغيَّر صورته ولا تتبدَّل ولكن يُمثَّل فى أعينهم يومئذ، أو لم تقرأ كتاب الله: "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ").
* ذهب جمهور العلماء إلى حمل الحديث على ظاهره وأن الله يَظهَر للناس يوم القيامة بأكثر من صورة ويتحول من صورة إلى أخرى كما سبق ذكرها ، وذهبوا إلى إبطال التأويل الذى أوَّله أبوعاصم والدارمى بأن ذلك التغير فى عيون الرائين فقط، وقالوا بأنه تأويل باطل مخالف لظاهر النصوص من عدة أوجه هى :
الوجه الأول: ما ورد فى الروايات السابقة من أقوال مثل :
" فيأتيهم الله تبارك وتعالى فى صورة غير صورته التى يعرفون "
" فيأتيهم الله تعالى فى صورته التى يعرفون "
" أتاهم رب العالمين فى أدنى صورة من التى رأوه فيها "
" ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل فى صورته التى رأوه فيها أول مرة "
" فيأتيهم الجبَّار فى صورة غير صورته التى رأوه فيها أول مرة "
فكل هذه الأقوال صريحة واضحة المعنى بأن الله سبحانه يظهر لهم بأكثر من صورة ويتحول من صورة إلى صورة، لا مجرد تغير فى عيون الرائين.
الوجه الثانى: أن الناس لا يعرفون فى الدنيا لله صورة معينة، لأنهم لم يروه مطلقاً فى دنياهم ، كما أن الأوصاف التى وصفت بها الأدلة الشرعية اللهَ تعالى لا توجِب للناس صورة يعرفونها، إذ أنه لا يستطيع عقل إنسان أن يتخيَّل فى الدنيا صورة لله تعالى من خلال هذه الأوصاف المذكورة، لأن الله تعالى قال عن نفسه وذاته: " ليس كمثله شىء وهو السميع البصير ".
الوجه الثالث: أما عن قوله تعالى: " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا " فهذا التمثيل إذا قُصِد كان مقيَّداً بالرائى لا بالمرئى، فقيَّد ذلك بأعين الرائين ، أما الأحاديث السابقة فليس فيها مثل هذا التقييد الذى بالآية على أعين الرائين.
خلاصة القول فى " فيأتيهم الله فى صورة غير صورته التى يعرفون " :
ثبوت صفة الصورة لله تعالى شأن بقية الصفات، نؤمن بها وبمعناها ونقر بذلك دون أن نعرف أو نسأل عن الكيفية شيئاً، وأن الناس يرون الله فى الآخرة - لا الدنيا - رؤية معينة، ثم يتحول لهم بصورة أخرى غيرها أو أدنى منها ينكروها بل ويستعيذون منها، ثم يأتيهم مرة ثالثة بصورته التى يعرفونها.
أما عن كيفية الصورة وكيفية تغيرها من صورة إلى أخرى فلا ندرى عنها شيئاً، وكذلك كيفية الصورة الراسخة فى عقول الناس وكيفية رؤيتهم لله يوم القيامة لا ندرى عنها شيئاً.