جمال الهمالي اللافي
عضو جديد
- إنضم
- 28 يوليو 2003
- المشاركات
- 1,585
- مجموع الإعجابات
- 128
- النقاط
- 0
المسكن الإسلامي المعاصر
تساؤلات حول أزمة الهوية وإشكالية المعاصرة
لاشك أن أغلب المعماريين العرب قد أتيحت لهم خلال دراستهم أو بعد التخرج القيام بزيارة للمدن القديمة الواقعة في نطاق بلدانهم، وبالتالي يمكننا جميعا الخروج بخلاصة سريعة لخصائص المسكن الإسلامي التقليدي في العالم العربي والممثلة في مجموعة من القيم الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية التي حملها البيت الإسلامي التقليدي عبر مسير تشكّله التي امتدت لقرون عايشها ساكن البيت مع أسطى البناء( معماري تلك العصور)- والذي لم يكن يوما غريبا على محيطه مثلما لم يكن مغتربا عن ثقافة مجتمعه- وذلك لتحقيق معادلة الموائمة بين الشكل والمضمون، بين الجمال والمنفعة، بين المتانة والاقتصاد، بين الأنا والمجتمع. معادلة اعتمدت على التجربة والخطأ، المنطلقة من معطيات المحلية بكل ما تحمله من إرث ثقافي واجتماعي وبيئي، والتي لم تمنع من التفاعل الواعي مع الحضارات الأخرى والتقنيات المعاصرة لزمنهم.
يمكننا أن نلاحظ بوضوح الخصائص الاجتماعية للبيت الإسلامي التقليدي، الذي يضم بداخله عائلة متكاملة مكونة من الأبوين والأبناء والأحفاد تربطهم نظم اجتماعية تحكمها عــــــــــادات وتقاليد متوارثة مرجـعها الشرع والعرف. ويلعب الأب والأم ( الجدين) في هذا البيت دور القيادة العليا التي تدير شؤون البيت وتوزع المهام وتفض الخلافات وتتحمل المسئولية الكاملة عن كل فرد من أفراد هذه العائلة فيما يتعلق بأمور حياته ومستقبله.
كما نستخلص أيضا مجموعة من النظم الاقتصادية التي تتعلق بالعلاقة الاقتصادية التي تربط أفراد العائلة والتي تعتمد على مبدأ المشاركة والتكافل. أو بهيكلية البيت التي تتركب من نظم إنشاء بسيطة ومتعارف عليها لدى عمالة البناء المحليين إلى جانب مواد بناء مصدرها البيئة المحلية( طين وجير ورمل وحجارة).
ونلاحظ بوضوح الخصائص المعمارية والفنية في تشكيل البيت الإسلامي التقليدي من حيث توزيع فراغاته حول فناء مفتوح على السماء أو في المساحات المتقاربة لهذه الفراغات والتي لا تزيد عن الحاجة بل إنها تتميز بمرونة الاستعمال من خلال عناصر التأثيث التي تعتمد أساسا على المفروشات أو السدة التي يمكن استغلالها للنوم في أعلاها والتخزين في أسفلها. إلى جانب تعدد الأنشطة التي تدور بداخل هذه الفراغات( نوم، معيشة، أكل، تخزين، استقبال نساء)، كذلك ما توفره هذه العلاقات المعمارية من خصوصية تمنحها للبيت عن المحيط الخارجي ولأفراد العائلة فيما بينهم، إضافة للخصائص الفنية للعناصر الزخرفية المحلية التي ثري جماليات البيت.
كما تتكشف لنا بجلاء المكونات التخطيطية المدينة الإسلامية وهي نتيجة طبيعية للتوازن بين التجانس والتبيان الاجتماعي، في نظام اجتماعي يتطلب كلاًّ من: فصل الحياة الأسرية، والمشاركة في الحياة الاقتصادية والدينية للمجتمع، ومن ثَم تشكلت المدينة من نظام يقوم على تقسيم المدينة من حيث التخطيط إلى ثلاثة مستويات هي:
- الأماكن العامة: وهي التي تقع على جانبي الشارع الرئيسي للمدينة، وتشمل الأسواق المركزية، والمتاجر الكبرى المغطاة والمكشوفة، ومشاغل الحرفيين، والحمامات، وما إليها...
- الأماكن نصف العامة: وهي التي تقع على جانبي الشوارع المركزية للأحياء والتي تتفرع من الشارع الرئيسي للمدينة، ويتخللها بعض المباني السكنية.
- الأماكن الخاصة: وهي التي تقع على امتداد الحواري والأزقة المسدودة الضيقة أو المنعطفات والتي تتفرع من الشوارع المركزية للأحياء.
هذه هي خلاصة سريعة لمجموعة القيم التي افتقدناها في مخططات مدننا ومساكننا المعاصرة ولا نزال نفتقدها عند تصميم أي مشروع إسكاني جديد يتم تنفيذه من قبل الجهات الحكومية أو القطاع الخاص.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا حدث هذا الانفصام الحاد بين المجتمع وقيمه المتوارثة، وبمعنى آخر كيف ومتى أصبحت هناك فجوة بين الموروث الثقافي والحداثة أو المعاصرة؟ ومن المسئول عن ذلك؟
كيف تشكلت هذه الأزمة ومتى بدأ العد التصاعدي لتفاقمها يظهر حتى شكّل ظاهرة متفردة لهذا العصر على العصور التي سبقته؟
والإجابة عن هذا السؤال تجرنا إلى استعراض موجز لبدايات هذه الأزمة ومن أوربا تحديدا:
حيث كانت أوربا حتى منتصف القرن التاسع عشر قارة ذات تقاليد تحكمها التصورات المسيحية التي تقول أن الله أزلي ثابت، وإن قصده من خلق الإنسان هو كذلك قصد أزلي ثابت*. ومن ثمّ يرتبون على ذلك- ترتيبا وجدانيا في الغالب وفلسفيا أحيانا- أن حياة الإنسان ثابتة، ونظمه ثابتة، وغرائزه ثابتة، وعقائده وأفكاره وتقاليده ثابتة. وكان يغريهم بفكرة الثبات هذه أن الحياة في المجتمع الزراعي الإقطاعي كانت فعلا ثابتة النظم والقواعد والأفكار والتقاليد... وأنها ظلت على ثباتها هذا فترة تقرب من ألف عام.
حتى جاء دارون ليقول في كتابه الأول" أصل الأنواع" سنة 1859 وكتابه الثاني" أصل الإنسان" سنة1871 إنه لا شيء " ثابت" على وجه الأرض: لا النبات... ولا الحيوان... ولا الإنسان. وليس هناك قصد ثابت في الخليقة... والخالق- الذي هو الطبيعة- لم يقصد في الأصل أن يخلق الإنسان، إنما هو قد جاء هكذا نتيجة لعملية التطور البطيئة التي استغرقت ملايين السنين. ولم يكن " الإنسان" في منشئه إنسانا كما هو اليوم... وإنما أصله حيوان. لم يكن ينطق، ولم يكن يعقل، لم يكن يقف على قدمين اثنتين، وبطبيعة الحال لم تكن له تلك الخاصية التي أسبغها عليه التصـور الديني... لم تكن له" روح".
وهزت نظريته المجتمع الأوروبي كله، وقامت قيامة الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد. وفي المقابل اتهم دارون رجال الدين بالتخريف وتضليل عقول الناس. وقد وقفت الجماهير في أول الأمر في جانب الكنيسة... في جانب العقيدة التي كانت عزيزة عليها وإن لم تعمل بمقتضياتها... في جانب التقاليد الروحية والفكرية... في جانب موروثاتها العقلية والوجدانية... وفي جانب اعتزازها بشخصيتها... اعتزازها بأصلها" الإنساني" الذي نفى عنه دارون الإنسانية وألحقه بالحيوان.
ولكن موقف الجماهير بعد ذلك تبدل ... فلأن كان قد عز عليها أن يسلبها دارون إنسانيتها، ويردها إلى أصل حيواني، فقد أخذت تشمت في الكنيسة* ورجال الدين، ووجدت أن الفرصة سانحة للتخلص من نيرها المرهق وسلطانها البغيض. فانتهزت الفرصة ودخلت المعركة مهاجمة بعد أن كانت مدافعة. وأيّا كانت طبيعة المعركة ودوافعها فقد كانت من المعارك الحاسمة في التاريخ، وتركت في حياة الناس نتائج بالغة الخطورة، وما يزال " المد" الذي أحدثته في أوروبا يفيض حتى اللحظة بأخطر الأمور. وقد كان من أهم نتائج هذه المعركة/
1. زلزلة الإيمان بالله والعقيدة.
2. زلزلة الإيمان بالإنسانية والإنسان ورفعته وسموه.
3. زلزلة الإيمان " بثبات" أي نظام من النظم أو قيمة من القيم أو فكرة من الأفكار.
4. زلزلة كل شيء كان راكزا من قبل وتحطيم كل بنيان راسخ الأساس.
وصار الإنسان- على هدي الداروينية- حيوانا لا رفعة فيه ولا روحانية، وصار من جهة أخرى مطلقا من كل قواعد الخُلق وقواعد المجتمع وقواعد التقاليد، لأن هذه كلها ثوابت زائفة لا ثبات فيها، وناشئة عن ضلالة سابقة مستمدة من الدين.
كل شيء يتطور، والمجتمع كذلك يتطور... تتطور نظمه وأفكاره ومفاهيمه:
• فإذا كانت " الأخلاق" بمفهومها التقليدي شيئا جميلا في الماضي، ومناسبا لمرحلة معينة من التطور، فليس من الضروري أن تكون اليوم جميلة ولا مناسبة... لأن المجتمع قد تطور... و" المجتمع" هو الذي صنع هذه الأخلاق من قبل... وليس الله... وليس العقيدة- وإن كان الناس قد أسندوها من قبل غفلة منهم إلى الله والعقيدة- فالمجتمع إذن هو صاحب الشأن في تعديلها أو الإبقاء عليها... وقد قرر التعديل.
• وإذا كانت " العائلة والأسرة" بمفهومها التقليدي شيئا جميلا في الماضي، ومناسبا لمرحلة معينة من التطور فليس من الضروري أن يكون هذا المفهوم اليوم مناسبا وجميلا... بل ليس من الضروري أن توجد أسرة على الإطلاق... فليس الله الذي صنع الأسرة كما فهمت الجماهير خطأ من قبل، وإنما هي احتياجات المجتمع... والمجتمع حر اليوم في الإبقاء على العائلة والأسرة أو تفكيكها... وقد قرر التفكيك.
• وإذا كانت المرأة من قبل زوجة وأما ولا زيادة، فليس ذلك أصلا من أصول الأشياء، ولا مبدأ ثابتا لا يتغير... وإنما هي فكرة اجتماعية نشأت عن عادة... والمجتمع الذي أحاط بهذه الفكرة من قبل بسياج الصيانة، بل القداسة الزائفة، ودسّ فيها اسم الله والدين، هو المجتمع الذي يحطم اليوم هذه الفكرة، ويرفع سياجها الزائف، ويطلقها بلا سياج.
• وإذا كانت " العفة" الجنسية قدساً من أقداس الماضي، فليس ذلك قيمة من القيم الثابتة الراسخة في الحياة البشرية... إنما هي كانت كذلك في فترة من الزمن... وليس ما يمنع أن " تتطور" من أساسها، أو أن تصبح- إذا أراد المجتمع- رذيلة ينفر منها المتحضرون.
ومع الداروينية ولد التفسير المادي والاقتصادي للتاريخ. ويقول التفسير المادي للتاريخ/
أولاً: إن تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام.
ثانيا: إن القوى المادية- أو القوى الاقتصادية- هي التي تكيف الحياة البشرية، وتعطيها طابعها، وتنشي أفكارها ومفاهيمها وعقائدها... حسب درجتها من التطور. فإذا انتقلت البشرية من طور إلى طور- بحكم قوة التطور الدائمة المفروضة على الإنسان من خارج نفسه، والتي لا علاقة بإرادته الذاتية- فإن صورة الحياة تتغير، ومشاعر الناس تتغير، وأفكارهم ومفاهيمهم وعقائدهم تتغير، ويتغير كل شيء في المجتمع من أخلاق وعادات وتقاليد تغيراً حتمياً لا يملك السيطرة عليه أحد لأنه ليس من صنع البشر، وإنما هو من صنع البيئة المادية أو القوى الاقتصادية*.
ثالثا: إن الأطوار التي تنتقل فيها البشرية هي ذاتها أطوار حتمية لا فكاك منها ولا اختيار فيها. فهي مثلا تنتقل من الصيد إلى الرعي إلى الزراعة إلى الصناعة... وهي مثلا تنتقل من الخرافة إلى التدين... إلى العلم، وكل طور من هذه الأطوار له عقائد محددة وعادات محددة ترسمها البيئة... وحين ينتقل المجتمع من حالة إلى الحالة التالية لها- وهو انتقال حتمي- يأخذ بصفة حتمية كذلك مفاهيم الحالة الجديدة وأفكارها وعقائدها بلا اختيار.
وأخيرا- وهو خلاصة القول السابق- : إن الأفكار والمشاعر والعقائد ليست هي التي تحرك الناس أو ترسم لهم سلوكهم.
تساؤلات حول أزمة الهوية وإشكالية المعاصرة
لاشك أن أغلب المعماريين العرب قد أتيحت لهم خلال دراستهم أو بعد التخرج القيام بزيارة للمدن القديمة الواقعة في نطاق بلدانهم، وبالتالي يمكننا جميعا الخروج بخلاصة سريعة لخصائص المسكن الإسلامي التقليدي في العالم العربي والممثلة في مجموعة من القيم الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية التي حملها البيت الإسلامي التقليدي عبر مسير تشكّله التي امتدت لقرون عايشها ساكن البيت مع أسطى البناء( معماري تلك العصور)- والذي لم يكن يوما غريبا على محيطه مثلما لم يكن مغتربا عن ثقافة مجتمعه- وذلك لتحقيق معادلة الموائمة بين الشكل والمضمون، بين الجمال والمنفعة، بين المتانة والاقتصاد، بين الأنا والمجتمع. معادلة اعتمدت على التجربة والخطأ، المنطلقة من معطيات المحلية بكل ما تحمله من إرث ثقافي واجتماعي وبيئي، والتي لم تمنع من التفاعل الواعي مع الحضارات الأخرى والتقنيات المعاصرة لزمنهم.
يمكننا أن نلاحظ بوضوح الخصائص الاجتماعية للبيت الإسلامي التقليدي، الذي يضم بداخله عائلة متكاملة مكونة من الأبوين والأبناء والأحفاد تربطهم نظم اجتماعية تحكمها عــــــــــادات وتقاليد متوارثة مرجـعها الشرع والعرف. ويلعب الأب والأم ( الجدين) في هذا البيت دور القيادة العليا التي تدير شؤون البيت وتوزع المهام وتفض الخلافات وتتحمل المسئولية الكاملة عن كل فرد من أفراد هذه العائلة فيما يتعلق بأمور حياته ومستقبله.
كما نستخلص أيضا مجموعة من النظم الاقتصادية التي تتعلق بالعلاقة الاقتصادية التي تربط أفراد العائلة والتي تعتمد على مبدأ المشاركة والتكافل. أو بهيكلية البيت التي تتركب من نظم إنشاء بسيطة ومتعارف عليها لدى عمالة البناء المحليين إلى جانب مواد بناء مصدرها البيئة المحلية( طين وجير ورمل وحجارة).
ونلاحظ بوضوح الخصائص المعمارية والفنية في تشكيل البيت الإسلامي التقليدي من حيث توزيع فراغاته حول فناء مفتوح على السماء أو في المساحات المتقاربة لهذه الفراغات والتي لا تزيد عن الحاجة بل إنها تتميز بمرونة الاستعمال من خلال عناصر التأثيث التي تعتمد أساسا على المفروشات أو السدة التي يمكن استغلالها للنوم في أعلاها والتخزين في أسفلها. إلى جانب تعدد الأنشطة التي تدور بداخل هذه الفراغات( نوم، معيشة، أكل، تخزين، استقبال نساء)، كذلك ما توفره هذه العلاقات المعمارية من خصوصية تمنحها للبيت عن المحيط الخارجي ولأفراد العائلة فيما بينهم، إضافة للخصائص الفنية للعناصر الزخرفية المحلية التي ثري جماليات البيت.
كما تتكشف لنا بجلاء المكونات التخطيطية المدينة الإسلامية وهي نتيجة طبيعية للتوازن بين التجانس والتبيان الاجتماعي، في نظام اجتماعي يتطلب كلاًّ من: فصل الحياة الأسرية، والمشاركة في الحياة الاقتصادية والدينية للمجتمع، ومن ثَم تشكلت المدينة من نظام يقوم على تقسيم المدينة من حيث التخطيط إلى ثلاثة مستويات هي:
- الأماكن العامة: وهي التي تقع على جانبي الشارع الرئيسي للمدينة، وتشمل الأسواق المركزية، والمتاجر الكبرى المغطاة والمكشوفة، ومشاغل الحرفيين، والحمامات، وما إليها...
- الأماكن نصف العامة: وهي التي تقع على جانبي الشوارع المركزية للأحياء والتي تتفرع من الشارع الرئيسي للمدينة، ويتخللها بعض المباني السكنية.
- الأماكن الخاصة: وهي التي تقع على امتداد الحواري والأزقة المسدودة الضيقة أو المنعطفات والتي تتفرع من الشوارع المركزية للأحياء.
هذه هي خلاصة سريعة لمجموعة القيم التي افتقدناها في مخططات مدننا ومساكننا المعاصرة ولا نزال نفتقدها عند تصميم أي مشروع إسكاني جديد يتم تنفيذه من قبل الجهات الحكومية أو القطاع الخاص.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا حدث هذا الانفصام الحاد بين المجتمع وقيمه المتوارثة، وبمعنى آخر كيف ومتى أصبحت هناك فجوة بين الموروث الثقافي والحداثة أو المعاصرة؟ ومن المسئول عن ذلك؟
كيف تشكلت هذه الأزمة ومتى بدأ العد التصاعدي لتفاقمها يظهر حتى شكّل ظاهرة متفردة لهذا العصر على العصور التي سبقته؟
والإجابة عن هذا السؤال تجرنا إلى استعراض موجز لبدايات هذه الأزمة ومن أوربا تحديدا:
حيث كانت أوربا حتى منتصف القرن التاسع عشر قارة ذات تقاليد تحكمها التصورات المسيحية التي تقول أن الله أزلي ثابت، وإن قصده من خلق الإنسان هو كذلك قصد أزلي ثابت*. ومن ثمّ يرتبون على ذلك- ترتيبا وجدانيا في الغالب وفلسفيا أحيانا- أن حياة الإنسان ثابتة، ونظمه ثابتة، وغرائزه ثابتة، وعقائده وأفكاره وتقاليده ثابتة. وكان يغريهم بفكرة الثبات هذه أن الحياة في المجتمع الزراعي الإقطاعي كانت فعلا ثابتة النظم والقواعد والأفكار والتقاليد... وأنها ظلت على ثباتها هذا فترة تقرب من ألف عام.
حتى جاء دارون ليقول في كتابه الأول" أصل الأنواع" سنة 1859 وكتابه الثاني" أصل الإنسان" سنة1871 إنه لا شيء " ثابت" على وجه الأرض: لا النبات... ولا الحيوان... ولا الإنسان. وليس هناك قصد ثابت في الخليقة... والخالق- الذي هو الطبيعة- لم يقصد في الأصل أن يخلق الإنسان، إنما هو قد جاء هكذا نتيجة لعملية التطور البطيئة التي استغرقت ملايين السنين. ولم يكن " الإنسان" في منشئه إنسانا كما هو اليوم... وإنما أصله حيوان. لم يكن ينطق، ولم يكن يعقل، لم يكن يقف على قدمين اثنتين، وبطبيعة الحال لم تكن له تلك الخاصية التي أسبغها عليه التصـور الديني... لم تكن له" روح".
وهزت نظريته المجتمع الأوروبي كله، وقامت قيامة الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد. وفي المقابل اتهم دارون رجال الدين بالتخريف وتضليل عقول الناس. وقد وقفت الجماهير في أول الأمر في جانب الكنيسة... في جانب العقيدة التي كانت عزيزة عليها وإن لم تعمل بمقتضياتها... في جانب التقاليد الروحية والفكرية... في جانب موروثاتها العقلية والوجدانية... وفي جانب اعتزازها بشخصيتها... اعتزازها بأصلها" الإنساني" الذي نفى عنه دارون الإنسانية وألحقه بالحيوان.
ولكن موقف الجماهير بعد ذلك تبدل ... فلأن كان قد عز عليها أن يسلبها دارون إنسانيتها، ويردها إلى أصل حيواني، فقد أخذت تشمت في الكنيسة* ورجال الدين، ووجدت أن الفرصة سانحة للتخلص من نيرها المرهق وسلطانها البغيض. فانتهزت الفرصة ودخلت المعركة مهاجمة بعد أن كانت مدافعة. وأيّا كانت طبيعة المعركة ودوافعها فقد كانت من المعارك الحاسمة في التاريخ، وتركت في حياة الناس نتائج بالغة الخطورة، وما يزال " المد" الذي أحدثته في أوروبا يفيض حتى اللحظة بأخطر الأمور. وقد كان من أهم نتائج هذه المعركة/
1. زلزلة الإيمان بالله والعقيدة.
2. زلزلة الإيمان بالإنسانية والإنسان ورفعته وسموه.
3. زلزلة الإيمان " بثبات" أي نظام من النظم أو قيمة من القيم أو فكرة من الأفكار.
4. زلزلة كل شيء كان راكزا من قبل وتحطيم كل بنيان راسخ الأساس.
وصار الإنسان- على هدي الداروينية- حيوانا لا رفعة فيه ولا روحانية، وصار من جهة أخرى مطلقا من كل قواعد الخُلق وقواعد المجتمع وقواعد التقاليد، لأن هذه كلها ثوابت زائفة لا ثبات فيها، وناشئة عن ضلالة سابقة مستمدة من الدين.
كل شيء يتطور، والمجتمع كذلك يتطور... تتطور نظمه وأفكاره ومفاهيمه:
• فإذا كانت " الأخلاق" بمفهومها التقليدي شيئا جميلا في الماضي، ومناسبا لمرحلة معينة من التطور، فليس من الضروري أن تكون اليوم جميلة ولا مناسبة... لأن المجتمع قد تطور... و" المجتمع" هو الذي صنع هذه الأخلاق من قبل... وليس الله... وليس العقيدة- وإن كان الناس قد أسندوها من قبل غفلة منهم إلى الله والعقيدة- فالمجتمع إذن هو صاحب الشأن في تعديلها أو الإبقاء عليها... وقد قرر التعديل.
• وإذا كانت " العائلة والأسرة" بمفهومها التقليدي شيئا جميلا في الماضي، ومناسبا لمرحلة معينة من التطور فليس من الضروري أن يكون هذا المفهوم اليوم مناسبا وجميلا... بل ليس من الضروري أن توجد أسرة على الإطلاق... فليس الله الذي صنع الأسرة كما فهمت الجماهير خطأ من قبل، وإنما هي احتياجات المجتمع... والمجتمع حر اليوم في الإبقاء على العائلة والأسرة أو تفكيكها... وقد قرر التفكيك.
• وإذا كانت المرأة من قبل زوجة وأما ولا زيادة، فليس ذلك أصلا من أصول الأشياء، ولا مبدأ ثابتا لا يتغير... وإنما هي فكرة اجتماعية نشأت عن عادة... والمجتمع الذي أحاط بهذه الفكرة من قبل بسياج الصيانة، بل القداسة الزائفة، ودسّ فيها اسم الله والدين، هو المجتمع الذي يحطم اليوم هذه الفكرة، ويرفع سياجها الزائف، ويطلقها بلا سياج.
• وإذا كانت " العفة" الجنسية قدساً من أقداس الماضي، فليس ذلك قيمة من القيم الثابتة الراسخة في الحياة البشرية... إنما هي كانت كذلك في فترة من الزمن... وليس ما يمنع أن " تتطور" من أساسها، أو أن تصبح- إذا أراد المجتمع- رذيلة ينفر منها المتحضرون.
ومع الداروينية ولد التفسير المادي والاقتصادي للتاريخ. ويقول التفسير المادي للتاريخ/
أولاً: إن تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام.
ثانيا: إن القوى المادية- أو القوى الاقتصادية- هي التي تكيف الحياة البشرية، وتعطيها طابعها، وتنشي أفكارها ومفاهيمها وعقائدها... حسب درجتها من التطور. فإذا انتقلت البشرية من طور إلى طور- بحكم قوة التطور الدائمة المفروضة على الإنسان من خارج نفسه، والتي لا علاقة بإرادته الذاتية- فإن صورة الحياة تتغير، ومشاعر الناس تتغير، وأفكارهم ومفاهيمهم وعقائدهم تتغير، ويتغير كل شيء في المجتمع من أخلاق وعادات وتقاليد تغيراً حتمياً لا يملك السيطرة عليه أحد لأنه ليس من صنع البشر، وإنما هو من صنع البيئة المادية أو القوى الاقتصادية*.
ثالثا: إن الأطوار التي تنتقل فيها البشرية هي ذاتها أطوار حتمية لا فكاك منها ولا اختيار فيها. فهي مثلا تنتقل من الصيد إلى الرعي إلى الزراعة إلى الصناعة... وهي مثلا تنتقل من الخرافة إلى التدين... إلى العلم، وكل طور من هذه الأطوار له عقائد محددة وعادات محددة ترسمها البيئة... وحين ينتقل المجتمع من حالة إلى الحالة التالية لها- وهو انتقال حتمي- يأخذ بصفة حتمية كذلك مفاهيم الحالة الجديدة وأفكارها وعقائدها بلا اختيار.
وأخيرا- وهو خلاصة القول السابق- : إن الأفكار والمشاعر والعقائد ليست هي التي تحرك الناس أو ترسم لهم سلوكهم.