لاتحزن
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانهُ - مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذَا التَوْحِيدِ إِلاَّ جَعلَ لَهُ أعْدَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }( ). وَقَدْ يكُونُ لأَعْدَاءِ التَّوْحِيدِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ وكتب وَحُجَجٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ }( ). إِذا عَرَفْتَ ذَلِكَ ، وَعَرَفْتَ أنَّ الطَّرِيقَ إِلَى اللَّهِ لاَبُدَّ لَهُ مِنْ أعْدَاءٍ قَاعِدِينَ عَلَيْهِ ، أَهْلِ فَصَاحَةٍ ، وَعِلْمٍ ، وَحُجَجٍ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْلَمَ مِنْ دِينِ اللَّهِ مَا يَصِيرُ سِلاحًا تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ ، وَمُقَدَّمُهُمْ لِربكَ تعالى
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين }( ). وَلَكِنْ إِنْ أَقْبَلْت َعلى اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَأَصْغَيْتَ إِلَى حُجَجِ اللَّهِ ، وَبَيِّناتِهِ فَلا تَخَفْ ، وَلاَ تَحْزَنْ
{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}( ). وَالْعَامِّيُّ مِنَ الْمُوَحّدِينَ يَغْلِبُ الأَلْفَ مِنْ عُلَمَاءِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِين ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
{وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }( ) ، فَجُنْدُ اللَّهِ - تَعَالَى - هُمُ الْغَالِبُونَ بِالْحُجَّةِ وَاللِّسَانِ كَمَا هُمُ الْغَالِبُونَ بِالسِّيْفِ وَالسِّنَانِ ، وِإنٌمَا الْخَوْفُ عَلَى الْمُوَحِّدِ الَّذِي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ . وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِكِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ
{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى للمسلمين}( ) ، فَلا يَأْتِي صَاحِبُ بِاطِلٍ بِحُجَّةٍ إِلاَّ وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَنْقُضُهَا ، وَيُبيِّنُ بُطْلانَهَا، كَمَا قَالَ تَعَاَلَى
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}( ) ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ :
''هَذِهِ الآيَةُ عَامَّةٌ في كُلِّ حُجَّةٍ يَأْتي بِهَا أَهْلُ الْبَاطِلِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ''.
الجواب المجمل
وَأَنَا أَذْكُرُ لَكَ أَشْيَاءَ مِمَّا ذَكَر اللَّهُ - تَعَالَى - في كِتَابِهِ جَوَابًا لِكَلامٍ احْتَجَّ بِهِ الْمُشْرِكُون في زَمَانِنَا عَلَيْنَا، فَنَقُولُ : جَوَابُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ طَرِيقَيْنِ : مُجْمَلٌ ، وَمُفَصَّلٌ : أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوَ الأَمْرُ الْعَظِيمُ ، وَالْفَائِدَةُ الْكَبِيرَةُ لِمَنْ عَقَلَهَا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}( ) ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ,
إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَتْرُكُونَ الْمُحْكَمَ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَاحْذَرُوهُمْ-( ) . مِثَالُ ذَلِكَ : إِذَا قَالَ لَكَ بَعْضُ الْمُشْرِكِين :
{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }( ) ، أَوْ إِنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ ، أَوْ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِنْدَ اللَّهِ ، أوْ ذَكَرَ كَلاَماً لِلنَبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى شيء من بَاطِلِهِ وَأَنْتَ لاَ تَفْهَمُ مَعْنىَ الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ : إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ في قُلُوبهمْ زَيْغٌ يَتْرُكُونَ الْمُحْكَمَ ، وَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ . وَمَا ذَكَرْتُه لَكَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَأَنَّهُ كَفَّرَهُمْ بِتَعَلَّقِهِمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ، و الأَنْبِياَءِ ، و الأَوْلِيَاءِ مَع قَوْلِهِمْ
{هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}( ) ، وَهَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ ، لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ . وَمَا ذَكَرْتَه لِي - أيُّهَا الْمُشْرِكُ - مِن الْقُرْآنِ ، أَوْ كَلاَم رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ ، وَلكِنْ أقْطَعُ أنَّ كَلاَمَ اللَّهِ لاَ يَتَنَاقَضُ ، وَأَنَّ كَلاَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ يُخَالِفُ كَلاَمَ اللَّهِ تعالى . وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ ، وَلكِنْ لا يَفْهَمُهُ إلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ، فَلا تَسْتَهْن به ؛ فَإِنَّهُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى - {
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}( ).
الجواب المفصل
وأَمَّا الْجَوَابُ الْمُفصَّلُ فَإِنَّ أعْدَاءَ اللَهِ لَهُم اعُتِرَاضَاتٌ كَثِيرَة عَلَى دِينِ الرُّسُلِ يَصُدُّونَ بِهَا النَّاسَ عَنْهُ . مِنْهَا قَوْلُهُمْ : نَحْنُ لاَ نُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئاً ، بَلْ نَشْهَدُ أنَّهُ لا يَخْلُقُ ، وَلا يَرْزُقُ ، وَلاَ يَنْفَعُ ، وَلا يَضُرُّ إِلاَّ اللَّهُ - وَحُدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ - ، وأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفعًا، وَلاَ ضَرًّا ، فَضْلاً عَنْ عَبْدِ الْقَادِرِ ، أَوْ غَيْرِهِ . وَلكِنْ أنَا مُذْنِبٌ ، وَالصَّالِحُونَ لَهُمْ جَاهٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَطْلُبُ مِن اللَّهِ بِهِمْ . فَجَاوِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقِرُّونَ بِمَا ذَكَرْتَ لي - أيُّهَا الْمُبْطِلُ - ، وَمُقِرُّونَ أَنَّ أَوْثَانَهُمْ لاَ تُدَبِّرُ شَيْئًا ، وِإنَمَا أرَادُوا مِمَّنْ قَصَدُوا الْجَاهَ وَالشَّفَاعَةَ ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَوَضَّحَهُ . فَإِنْ قَالَ : إِنَّ هَؤُلاَءِ الآَيَاتِ نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ ، كَيفَ تَجْعَلَونَ الصَالِحِينَ مِثْلَ الأَصْنَامِ ؟ ! أَمْ كَيْفَ تَجْعَلُونَ الأنْبِيَاءَ أَصْنَاماً ؟! فَجَاوِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ إِذَا أقَرَّ أَنَّ الْكُفَارَ يَشْهَدُون بِالرُّبُوبِيَّةِ كُلِّهَا للَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَا أرَادُوا مِمن مَا قَصَدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ ، وَلكِنْ أَرَادَ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ فِعْلِهِمْ وَفِعْلِهِ بِمَا ذَكَرَ ، فَاذْكُرْ لَهُ أنَّ الْكُفَّارَ: مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الأَصْنَامَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الأَوْلِيَاءَ - الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}( ). ويَدْعُونَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ، وَأُمَّهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ , قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم}( ) . وَاذْكُرْ له قَوْلَهُ تَعَالَى
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}( ) ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَـهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}( ). فَقُلْ لَهُ : عَرَفْت أنَّ اللَّهَ كَفَّرَ مَنْ قَصَدَ الأَصْنَامَ ، وَكَفَرَ - أَيْضاً - مَنْ قَصَدَ الصَّالِحِينَ ، وَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإنْ قَالَ : الْكُفَّارُ يُرِيدُونَ مِنْهُم ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُ الْمُدَبِّرُ ، لا أُرِيدُ إِلاَّ مِنْهُ ، وَالصَّالِحُونَ لَيْسَ لَهُمْ مِن الأَمْرِ شَيءٌ ، وَلكِنْ أقْصُدُهُمْ أرْجُو مِنَ اللَّهِ شَفَاعَتَهُمْ . فَالْجَوَابُ : أنَّ هَذَا قَوْلُ الْكُفَّارِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}( )، وَقَوْلَهُ تَعَالَى :
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }( ). وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبَهَ الثَّلاَثَ هِيَ أكْبَرُ مَا عِنْدَهُمْ . فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللَّهَ وَضَّحَهَا في كِتَابِهِ ، وَفَهِمْتَهَا فَهْمَاَ جيِّدًا فَمَا بَعْدَهَا أيْسَرُ مِنْهَا .